تجري العملية الثانية بعد شهر من الأولى
اتخذت جمجمتيهما شكلا أنبوبيا، وأظهرت الأشعة تمايز مخ إحداهما عن الأخرى وإن كان شكل المخ مشوها، فالنصف الأيمن لكل من المخين بارز
بزاوية قائمة باتجاه التجويف الدماغي للتوأم المقابل.
وبالتالي يلزم ترميم الرأس ليكون أقرب ما يكون للطبيعي.
وتمثلت
الصعوبة الكبرى بالنسبة لفريق الجراحة في كيفية فصل الشبكة المعقدة المشتركة من الأوردة والشرايين، ومن خلالها يمد كل توائم الآخر بالدم.
وهناك مخاطرة كبيرة بقطع تلك الإتص
لا تتوافر أرقام رسمية عن مدى شيوع حالات الالتصاق بالرأس،
ولكن يشير أحد التقديرات إلى حالة واحدة بين كل 2,5 مليون ولادة، وأغلبها لا تقوى على الحياة لأكثر من 24 ساعة.
وتعتبر كل من هذه الحالات حالة فريدة، ولم تجر إلا 60 محاولة لفصل توائم ملتصقة بالرأس منذ عام 1952، تاريخ أول محاولة.
يعتقد جيلاني أن العالم يشهد قرابة ست حالات ولادة توائم ملتصقة بالرأس سنويا قد ينجح فصلها.
ويعد
مستشفى غريت أورموند ستريت رائدا في هذا النوع من الجراحات، وستكون حالة
صفا ومروة ثالث حالة توائم ملتصقة بالرأس يتعامل معها المستشفى، وهو عدد
أكبر من أي مركز آخر في العالم. ويدرك الفريق الجراحي من خبرته أن أفضل النتائج تتحقق حين يجري الفصل على مراحل خلال عمليات عدة ما يسمح بالتعافي
بعد كل عملية.
وفضلا عن الجراحين وطاقم التمريض يضم الفريق
المشارك في رعاية التوأمين وعملية الفصل بينهما بمستشفى غريت أورموند
ستريت نحو 100 شخص منهم متخصصون بالهندسة الحيوية فنيون في مجال التطبيقات ثلاثية الأبعاد فضلا عن مصمم لتصور مراحل الواقع الافتراضي للحالة.
الات بما يحرم المخ من إمداده ويتسبب في
سكتة دماغية.
يباشر جيلاني المهام الأساسية لفصل مخي البنتين وأوعيتهما الدموية، أما جراح التجميل البروفيسور ديفيد داناواي فيضطلع بعملية إعادة
تشكيل دماغي الفتاتين وإضافة سقف لجمجمة كل منهما.
الساعة 08:00 صباح الاثنين الخامس عشر من أكتوبر/تشرين الأول
2018 وقد تجمع فريق من نحو عشرين فردا في صالة العمليات رقم 10 بمستشفى
غريت أورموند ستريت. يقوم كل فرد بالفريق بتعريف نفسه والدور الذي يتولاه.
يقول جيلاني: "لدينا حالة واحدة اليوم. صفا ومروة، حالة واحدة وطفلتان".
بخطى بطيئة ستبدأ رحلة التوأمين نحو الاستقلال.
هدف الجراحة الراهنة – وهي الأولى من ثلاث عمليات رئيسية – هو فصل الشرايين المشتركة للتوأمين.
يراجع جيلاني خطة العمل للمرة الأخيرة قبل البدء، غير أن الجميع على بينة من الدور المنوط بهم، إذ استعد الفريق منذ عدة أشهر لمثل
هذا اليوم.
يقول داناواي: "راجعنا كل شيء بأدق التفاصيل المرة تلو الأخرى. جاءت ساعة الحسم ولا مجال للخطأ".
في
تلك الأثناء يجري إعداد التوأمين لصالة العمليات بأحد عنابر الأطفال.
ارتدت صفا ومروة رداء العمليات ولكنهما تبكيان وتتقلبان بقلق.
يحمل فصل التوائم الملتصقة مخاطر جمة قد تودي بحياة أحد التوأمين أو كليهما خلال الجراحة أو قد تلحق بهما إصابة دماغية. لا تخفى تلك الأخطار عن
الأسرة التي أولت الفريق الطبي ثقتها التامة.
يقول جيلاني: "لا تخفى على أحد صعوبة الحياة لتوأمين ملتصقين بهذا الشكل، ولذا تهون المجازفة بعملية الفصل والأسرة تدرك ذلك".
ويقول داناواي إن الفريق أجرى تقييما دقيقا للجوانب الأخلاقية المتعلقة بالحالة.
ويضيف: "طبعا أعتقد أن حياة التوأمين بعد فصلهما ستكون أفضل بكثير، ولو لم نعتقد
بأن لدينا فرصة كبيرة جدا في النجاح لراجعنا أنفسنا قبل القيام بالعملية.
الفريق بالكامل يعتقد بإمكان فصل التوأمين بنجاح".
ومع وصول البنتين على النقالة إلى صالة العمليات تبادر زينب إلى تقبيلهما، وهي تعلم أن الأشهر الآتية ستكون صعبة عليهما، وكذلك تشعر
بصعوبة تركهما ولو لحين. تغمر عينيها الدموع بينما تهدئ من روعها إحدى
الممرضات التي أصبحت تنظر اليهم وكأنهم من أقاربها.
تقول الأم: "إن شاء الله ستمضي الأمور على خير وكُلي ثقة بالأطباء. إن شاء الله كل شيء يكون على ما يرام".
المهمة الأولى داخل صالة العمليات هي رفع ثلاثة أجزاء كبيرة من
عظام الجمجمة. ارتدى جيلاني نظارات جراحية مكبرة متتبعا العلامات التي
وضعها على الجمجمة المشتركة للبنتين بعد حلاقة الشعر ليبدأ بقطع الجلد
والعظم.
وما إن ينكشف المخان، يستبدل جيلاني النظارة الجراحية بآلة أخرى أكثر دقة بكثير.
ينتصب في وسط غرفة العمليات مجهر جراحي بارتفاع سبعة أقدام ليمكّن جراح الأعصاب من فحص الأوعية الدموية متناهية الدقة.
الساعة الآن 2:30 ظهرا وجيلاني يعلن: "قمنا بسد شريان صفا الذي يزود مخ مروة بالدم والآن يتعين الانتظار".
إنها
لحظة حرجة، ففي كل مرة يتم قطع إتصال ما يصاحب ذلك خطر حدوث تلف في المخ.
تمضي خمس دقائق ويقول الجراح إن المخ "لا يبدو متضررا"، ويواصل العمل.
يستمر
هذا الإجراء المعقد لعدة ساعات أخرى يتم خلالها سد الشرايين المشتركة التي تحمل الدم النقي من إحدى التوأمين للأخرى، وقطعها ثم لحمها بعناية.
في تلك الأثناء يباشر فريق ثان يتزعمه داناواي العمل على مسافة قريبة من مسرح الأحداث الرئيسي.
تتمثل
مهمة فريق داناواي في تكوين هيكل صلب من الأجزاء الثلاثة من الجمجمة على
شبكة معدنية باستخدام مسامير، وهذه الأجزاء يمكن فصلها في عمليات لاحقة.
يقول داناواي إن الأمر صعب بسبب عمر التوأمين "لأنهما أكبر
سنا وأكثر نشاطا ويلزم أن يكون الترميم متينا لمقاومة الحركة والشد والجذب
بالرأس".
وبينما يعمل الفريق بصبر لفصل أحد المخين عن الآخر يستعين أفراده بغشاء من البلاستيك الطبي الناعم للحيلولة دون التحام أجزاء
المخ مجددا بين العملية والأخرى. وتتم الاستعانة بما يشبه الرافعة المتصلة
بالبلاستيك لشد أجزاء المخ بالاتجاه الصحيح وتقويم وضعها تدريجيا.
وما إن ينتهي فصل الشرايين المشتركة يعيد الفريق تثبيت هيكل الجمجمة. واستغرقت العملية خمس عشرة ساعة.
تنقل البنتان للعناية المركزة، وبعد يومين تنقلان لعنبرهما المعتاد والأطباء مطمئنون للحالة.
يقول داناواي إن عملية فصل صفا ومروة هي الأصعب بالتأكيد لأسباب ليس أقلها الانحراف الكبير في وضع المخ وشكله.
ويضيف:
"كانت الحالتان السابقتان أسهل وكنا محظوظين. ولكن في الحالة الراهنة
قللنا من أهمية تعقيد التصاق المخين بشكل منحرف، كما ان البنتين بعمر يزيد
الأمور صعوبة".
ويعتقد الجراحون أن العمر المثالي لفصل توأمين ملتصقين بالرأس يتراوح بين ستة أشهر و12 شهرا.
يضيف
جيلاني: "لقد كان الأمر شاقا على البنتين، فكلما كان المخ صغيرا والأوعية
الدموية صغيرة عادت الأمور للمسار الطبيعي بشكل أيسر".
ويوافقه داناواي: "يكون كل شيء أسهل. الجلد يشد نفسه ويبرأ بشكل أفضل والعظام تنمو بشكل أحسن لسد الفراغات".
قاربت
صفا ومروة عامهما الثاني والسن ليس في صالحهما، ولكن يرى فريق العمل أمورا
أخرى في صالح التوأم، فقد تطورت تقنيات الأشعة والتصور الافتراضي بشكل كبير خلال السنوات الثماني الماضية ما ساعد الفريق على التخطيط لعملية
الفصل بتدقيق أكثر من أي وقت مضى.
في مكتب ضيق مكتظ تبرز
شاشة كمبيوتر ضخمة مقعرة ويجلس جولينغ أونغ وهو جراح متخصص بجراحات تجميل
الرأس والوجه. يرأس أونغ فريق التصور الافتراضي لما سيكون عليه رأسا صفا ومروة بعد الفصل ويشرح بعض الأنظمة المتطورة التي باتت بأيدي الأطباء.
يقول:
"هذه الحالة بين حالات فريدة لم ترد علينا أثناء دراسة الطب، ولكن تُمكننا هذه البرمجيات من تصور نموذج لما سيكون عليه الشكل التشريحي بالنظر إلى وضع الطفلتين ومن ثم التخطيط لمسار الجراحة قبل الشروع فيها، وذلك
بالاستعانة بالكمبيوتر".
على الشاشة يعرض أونغ نماذج مجسمة
مذهلة لجلد الطفلتين وجمجمتيهما وتداخل المخين بالاستعانة بصور الأشعة
التقليدية، ويقول: "يساعدنا الكمبيوتر على تصور استراتيجيات مختلفة للجراحة
وتوقع مكامن الخطر نظرا للوضع التشريحي الفريد لهذين التوأمين".
مضت 48 ساعة وخرج كوك يين تشوي، فني المجسمات بالمستشفى، بكتلة من البلاستيك اللّين، ومع غسلها وتشذيبها تظهر صورة أشبه بتجويف جمجمة إحدى التوأمين
وغشائه الجلدي. الغرض من هذه النسخة المطابقة للأصل المساعدة في تصور كيفية
تقسيم الطبقة الجلدية المشتركة بين الجمجمتين.
جرى تصميم
العديد من تلك المجسمات لتساعد الجراحين على استكشاف التركيب العظمي والجلدي الغريب للبنتين قبل أن يمتد مشرط الجراحة لجمجمتيهما الحقيقيتين.
يقول جيلاني: "تساعد رؤية تلك النماذج والتعامل معها قبل الجراحة بشكل هائل في التخطيط للعملية وتنفيذها. المطلوب هو القيام بفك أحد
المخين من الآخر وهو ما يصعب تخيله دون تجربة ذلك بشكل ملموس".
يوافقه داناواي قائلا إنهم أمضوا الكثير من الوقت في التدقيق في تلك المجسمات وتجربة سيناريوهات مختلفة.
ولم
يقتصر الأمر على المجسمات، بل يلبس جيلاني منظارا يتيح له رؤية الواقع الافتراضي بينما يمسك بأداة تحكم، ويقول وهو يتمايل في كرسيه أمام شاشة
الكمبيوتر: "شيء مذهل". ويصف ما يراه من محاكاة لتشابك الأوعية الدموية
للبنتين، مثنيا على دور المبرمجين والمهندسين الذين لولاهم لما استطاع الأطباء تنفيذ المهمة.
Comments
Post a Comment